قال لي جليسي:
"شاهدت فيلما سينمائيا أربع مرّات متتالية".
قلت له مستغربا:
"قلت أربع مرّات متتالية؟ هذا كثير!!".
قال لي:
"اسمع، سأحكي لك وقائع الفيلم".
وراح يسهب في الحكي عن أدقّ تفاصيل الفيلم. وتوقف كثيرا عند البطلة. كانت طبيبة نفسانية، مثل ملاك هبط من السّماء، تؤدي خدماتها لدور العجزة وملاجئ الأيتام مجانا.
في صباح يوم بارد أحضرت الشّرطة رضيعا إلى الملجإ. تخلّت عنه أمّه تحت سقيفة. تركته مقمّطا في سلّة أحاطت بها بعض الكلاب الضّالة. كانت تتشمّمه، و تفرّ منه بعيدا حين يصرخ صراخا غريبا.
امتنع الرّضيع عن الرّضاعة الاصطناعية، وراح يصرخ ليل نهار، مما جعل أطفال الملجإ يرعبون وينخرطون معه في صراخ جماعي مزعج.
استعانت مديرة الملجإ بالطّبيبة النّفسانية. هاتفتها، فحضرت مسرعة. أخبرتها بمشكلة الرّضيع. وقفت الطّبيبة أمام سريره وطلبت من المربيات الابتعاد... ومدّت يدها إليه، وكلّمته مدّة كما تكلّم كبيرا... ولمّا أنهت كلامها معه، توقّف الرّضيع عن الصّراخ المتواصل الذي دام ثلاثة أيام. اندهشت المديرة والمربيات حين شاهدنه يقبض على أصابع الطّبيبة ويسكت.
طلبت الطّبيبة الرّضّاعة الاصطناعية، وألحّت على أن يؤتى لها بأيّ شيء تركته أمّ الرّضيع معه في السّلة. جاءتها إحدى المربيات بالرّضّاعة وبمنديل أبيض طُرّز عليه اسم الرّضيع، كان ما يزال يحمل رائحة عطر من تركته. لفّت الطّبيبة الرّضّاعة في المنديل وقربتها مِنْ أنف الرّضيع، شمّ رائحة المنديل ابتسم ابتسامة ملائكية عريضة، وفتح فمه وبدأ يرضع الحليب من الرّضّاعة على الفور، وبنهم شديد..
وانتهى الفيلم بتصفيقات حارّة للطّبيبة الملاك في القاعة العريضة.
****************************************************************
هبّ صاحبي من مكانه ملسوعا، وخطا خطوتين اثنتين، وتوقّف واستدار نحوي وأخرج من جيب سرواله منديلا أبيض رفعه إلى أنفه، تشمّم عطره طويلا، ثمّ مسح به دموعا انهمرت على خدّيه الضّامرين...